الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم *** خضع الرقاب نواكسي الأبصار على أن جمع التكسير نحو نواكس لا يمتنع جمعه جمع سلامة كنواكسين، كما ذكره أبو علي في الحجة . أقول: ذكره أبو علي في إعراب الشعر أيضاً. واعلم أن الكلام على هذه الكلمة من ثلاثة وجوه: أحده: أن نواكس جمع ناكس وهو المطأطأ رأسه؛ وفاعل إذا كان اسماً نحو كاهل، وصفة مؤنث سواء كان ممن يعقل نحو حائض وممن لا يعقل نحو ناقة حاسر: إذا أعيت، وصفة مذكر غير عاقل نحو صاهل - يجمع قياساً على فواعل، تقول: كواهل وحوائض وحواسر وصواهل. أما إذا كان صفة المذكر عاقل لا يجمع على فواعل، وقد شذت ألفاظ خمسة: وهي ناكس ونواكس، وفارس وفوارس نحو: البسيط لولا فوارس من نعم وأسرتهم وهالك وهوالك قالو: هالك في الهوالك ، وغائب وغوائب، وشاهد وشواهد، قال عتبة بن الحارث لجزء بن سعد: الوافر أحامي عن ديار بني أبيكم *** ومثلي في غوائبكم قليل فقال له جزء: نعم، وفي شواهدنا! فجمع عتبة غائباً على غوائب، وجمع جزء شاهداً على شواهد. وقد وجهت بتوجيهات: أما الأول فقد حمله سيبويه على اعتبار التأنيث في الرجال، قال: لأنك تقول هي الرجال كما تقول هي الجمال. فشبهه بالجمال. ومنه أخذ أبو الوليد فقال في شرح كامل المبرد: هذا مخرج على غير الضرورة، وهو أن تريد بالرجال جماعات الرجال، فكأنه جماعات نواكس وواحده جماعة ناكسة، فيكون مقيساً جارياً على بابه كقائله وقوائل. ووجهه ابن الصائغ على أنه صفة للإبصار من جهة المعنى، لأن الأصل قبل النقل نواكس أبصارهم، والجمع في هذا قبل النقل سائغ لأنه غير عاقل، فلما نقلوا تركوا الأمر على ما كان عليه لأن المعنى لم ينتقل. وأما الثاني فقالوا: إنه من الصفات التي استعملت استعمال الأسماء فقرب بذلك منها، ولأنه لا لبس فيه، لما ذكر سيبويه من أن الفارس في كلامهم لا يقع إلا للرجال. وأما الثالث فوجهه أنه جرى عندهم مجرى المثل، ومن شأن الأمثال أن لا تغير عن أصلها. وأما الرابع والخامس فوجههما يعلم مما وجه به الشلوبيين هوالك ونواكس، فإنه يجري في جميع ما جاء من هذا؛ وهو قوله: قد عرف بقولهم أولاً هالك أنه إنما يريد المذكر، وكذلك بقوله وإذا الرجال رأوا يزيد . قال: فصار ذلك مما تقدم ذكره من قولهم فارس في الفوارس وإن لم يكن مثله في الجملة، لأن المعنى الذي يتضمنه نواكس يصلح للمذكر والمؤنث، والمعنى الذي يتضمنه الفوارس لا يصلح إلا للمذكر. هذا قوله، وهو جار في الأخيرين، لأنه إنما يريد فيمن غاب كم رجالكم ، ولم يرد أن مثله في نسائهم قليل، فعين أنه يريد المذكر من جهة قصد فصار كالفوارس. قال الشاطبي في شرح الألفية: وطريقة المبرد في جميع ما جاء شاذاً من هذا النوع: أن فواعل هو الأصل في الجميع، وإنما منع منه خوف اللبس، فإذا اضطروا راجعوا الأصل كما يراجعونه في سائر الضرورات وكذلك حيث أمنوا الإلباس . قال المبرد في الكامل، بعد ما أورد بيت الشاهد: وفي هذا البيت شاهد يستطرفه النحويون، وهو أنهم لا يجمعون ما كان من فاعل نعتاً على فواعل لئلا يلتبس بالمؤنث، لا يقولون ضارب وضوارب، لأنهم قالوا ضاربة وضوارب. ولم يأت هذا إلا في حرفين: أحدهما فارس لأن هذا مما لا يستعمل في النساء فأمنوا الالتباس. ويقولون في المثل: هو هالك في الهوالك فأجروه على أصله كثرة الاستعمال، لأنه مثل، فلما احتاج الفرزدق لضرورة الشعر أجراه على أصله فقال: نواكسي الأبصار ولا يكون مثل هذا أبداً إلا ضرورة . وفيه أنه كان ينبغي أن يقيد النعت بمن يعقل ولكنه أطلق لشهرته، وفيه أيضاً أن المسموع خمسة لا ثلاثة كما تقدم. ثم رأيت في شرح أدب الكاتب للجواليقي زيادة على هذه الخمسة، وهي: حارس وحوارس، وحاجب وحواجب من الحجابة، نقلهما عن ابن الأعرابي، ثم قال: ومن ذلك ما جاء في المثل مع الخاطئ سهم صائب . وقولهم: أما وحواج بيت الله ودواجه جمع حاج وداج، والداج: الأعوان والمكارون. وحكى المفضل رافد وروافد، وأنشد: إذا قل في الحي الجميع الروافد فالجميع إحدى عشرة كلمة. الوجه الثاني أن المشهور في رواية هذه الكلمة نواكس بدون جمعها جمع سلامة، وبه استشهد س وصاحب الجمل وقالا: كان القياس أن يجمع ناكس على أنكاس ونكس، وكأنه حمله على تأنيث الجمع. وقد رواها جماعة جمعها بجمع السلامة؛ قال ابن السيد في شرح كامل المبرد: وهذا أطرف وأغرب من جمع ناكس على نواكس فإنه غريب جداً، لأن الخليل يرى أن هذا البناء نهاية الجمع. وقال في شرح أبيات الجمل: ولما كان الجمع الذي ثالثه ألف وبعده حرفان وثلاثة لا يتهيأ تكسيره لأنه نهاية التكسير وأريد جمعه لم يكن ذلك إلا بأن يجمع جمع سلامة، لأنه لا يغير الاسم عن لفظه. قال الجاربردي في شرح الشافية ، بعد ما قال ابن الحاجب وقد بجمع الجمع: أي: جمع تكسير وجمع تصحيح بالألف والتاء. وأفاد بقد أنه لا يطرد قياساً لكنه كثير في جمع القلة، قليل في جمع الكثرة إلا بالألف والتاء. الوجه الثالث أنه يتراءى في ظاهر الأمر تدافع بين هذا الوزن من جمع التكسير وبين جمع التصحيح، فإن الأول موضوع للكثرة والثاني للقلة. وقد سأل ابن جني في إعراب الحماسة عن هذا فقال فإن قلت: فقد قالوا فهن يعلكن حدائداتها وقالوا: قد جرت الطير أيامنينا وقالوا: صواحبات يوسف، ومواليات العرب، وقال الفرزدق: خضع الرقاب نواكسي الأبصار فيمن رواه بالياء ففي هذا على قولك اجتماع الضدين وهو دلالة المثال على الكثرة مع جمعه بالواو والنون والألف والتاء، وكل واحد منهما على ما قدمت موضوع للقلة! وأجاب عنه بقوله قيل: لا يكون مفيد القلة في القلة كأن لا يوجد البتة، ألا ترى أن نفس نواكس وصواحب يفيد بنفسه مفرد الكثرة! أفتراه إذا جمع جمع القلة يصيره ذلك أن يكون أقل من أن لا يجمع أصلاً؟ قد كفاه موضوعه للكثرة من احتياجه إلى تثنية فضلاً عن جمع القلة، وتجاوز به إلى مثال كثرة؛ كما أن المضمر المجرور وإن ضعف عن عطف المظهر عليه بغير إعادة حرف جر معه، فإنه لا يضعف عن توكيده كمررت به نفسه، وذلك أنه لا يبلغ به الضعف أن يكون أقل من لا شيء. وأنت لو قلت مررت بنفسه لكان قولاً جائزاً. فاعرف هذا النحو . انتهى كلامه. وهذه عبارة قلقة يتعسر فهم المراد منها فينبغي شرحها. فقوله: ففي هذا على قولك اجتماع الضدين إلخ أقول: لا يخفى عليك أن هذا ليس على ظاهره، بل إنما هو في الحقيقة اعتراض بالترديد بين المحذورين، ذكر أحدهما لظهوره، وترك الآخر اعتماداً على فهم من له حظ من قانون المناظرة؛ وإلا فلا يتم التقريب أصلاً كما لا يخفى. وتقريره أن هذا الجمع لو جمع جمع القلة يلزم أحد المحذورين: إما اجتماع الضدين على تقدير أن يكون القلة والكثرة موجودتين معاً، وكون مفيد القلة كان لا يوجد على تقدير إعدام القلة، ولم يتعرض لكون مفيد الكثرة كان لا يوجد لأنه لا خفاء في امتناعه، ضرورة بقاء الكثرة على حالها بعد أن جمع جمع القلة. وقوله: قيل لا يكون مفيد القلة في القلة كأن لا يوجد البتة إلخ ظاهره جواب باختيار الشق الثاني، لكن يحصل منه الجواب باختيار الشق الأول أيضاً. وتقريره: إنا لا نسلم لزوم كون مفيد القلة كان لا يوجد على تقدير إعدام القلة، بل إنما يلزم ذلك أن لو كانت القلة منتفية بجميع أنواعها وذلك ممنوع، لأن وضع لفظ التكسير للكثرة يقتضي انتفاء القلة المباينة لها لا القلة المجامعة معها، ولا يلزم من انتفاء الأول انتفاء الثاني حتى يكون مفيد القلة كأن لا يوجد. ولا نسلم أيضاً لزوم اجتماع الضدين على تقدير وجودهما معاً، بل إنما يلزم ذلك أن لو كانت القلة الباقية بعد أن جمع جمع القلة هي القلة المباينة للكثرة المذكورة؛ وذلك أيضاً ممنوع، بل مقتضاه اجتماع الكثرة مع القلة المجامعة معها، ضرورة أن لفظ القلة يفيد تقليل أفراد مدخولها لا غير، وهما ليسا بضدين حتى يلزم من وجودهما معاً اجتماع الضدين. وقوله ألا ترى إلخ مع قوله أفتراه إلخ تنوير لعدم كون مفيد القلة كان لا يوجد. وتقريره: أنك تعرف قطعاً أن نفس صواحب وأمثالها يفيد الكثرة بنفسه مفرداً، وتعرف أيضاً أن جمعه جمع القلة لا يصيره إلى أقل من أن لا يجمع ذلك الجمع أي: لا يغيره إلى حكم المفرد حتى يكون جمع القلة مفيداً للقلة في المفردات المباينة لتلك الكثرة. كيف لا! ولو كان كذلك يلزم انتفاء الكثرة، مع أن وضعه كاف في ذلك من غير احتياج إلى تثنية وجمع قلة وجمع كثرة. فظهر لك أن ذلك الجمع لإفادة أمر آخر زائد عليه، وهو تعليل تلك الكثرة فقط؛ فلما كنت القلة المجامعة مع تلك الكثرة باقية على حالها لم يكن مفيد القلة كأن لا يوجد البتة. وقوله: كما أن المضمر المجرور إلخ تنظير لعدم تغيير جمع القلة مع الكثرة، وتقريره: أن امتناع اجتماع الضدين نظير ضعف عطف المظهر على المضمر بغير إعادة الجار، وجمع القلة فيما نحن فيه نظير تأكيد المضمر بغير إعادة الجار، فكما أن ضعف العطف المذكور لكونه كالعطف على بعض حروف الكلمة لا ينافي جواز التأكيد بغير إعادة الجار، لأنه كنفسه بناء على تغاير المادتين - كذلك امتناع اجتماع الضدين لا ينافي جواز جمع التكسير جمع قلة لتغاير المادتين؛ وكما أن التأكيد لا يجعل المضمر أقل من أن لا يؤكد بل يفيد أمراً زائداً عليه وهو التأكيد، كذلك الجمع فيما نحن فيه لا يجعل لفظ التكسير أقل من أن لا يجمع، بل يفيد أمراً زائداً عليه، وهو تقليل الكثرة الحاصلة من المجامعة معه. والحاصل: أن ما هو لازم ليس بمحذور، وما هو بمحذور ليس بلازم؛ هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام. وقوله خضع الرقاب حال من مفعول رأيتهم، والرؤية بصرية في الموضعين، ولا تضر الإضافة فإنها لفظية، وكذلك نواكسي الأبصار ، لأن المعنى خضعاً رقابهم نواكس أبصارهم. وخضع بضمتين: جمع خضوع مبالغة خاضع من الخضوع وهو التطامن والتواضع، يقال خضع لغريمه يخضع بفتحهما خضوعاً: ذل واستكان، وهو قريب من الخشوع، إلا أن الخشوع أكثر ما يستعمل في الصوت، والخضوع في الأعناق، ولهذا أضافه إلى الرقاب. ويحتمل أن يكون خضعة بضمة فسكون جمع أخضع، وهو الذي في عنقه تطامن من خلقه؛ وهذا أبلغ من الأول: أي: ترى أعناقهم إذا رأوه كأنها خلقت متطامنة من شدة تذللهم؛ وفعل قياس في جمع أفعل وفعلاء صفة غير تفضيل، نحو أحمر وحمراء وجمعهما حمر. وهذا البيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها آل المهلب، وخص من بينهم ابنه يزيد، أوله: الكامل فلأمدحن بني المهلب مدحه *** غراء ظاهره على الأشعار مثل النجوم أمامها قمر له *** يجلو الدجى ويضيء ليل الساري ورثوا الطعان عن المهلب والقرى *** وخلائقاً كتدفق الأنهار أما البنون فإنهم لم يورثو *** كتراثه لبنيه يوم فخار إلى أن قال: أما يزيد فإنه تأبى له *** نفس موطنة على المقدار ورادة شعب المنية بالقن *** فتدر كل معاند نعار وإذا النفوس جشأن طامن جأشه *** ثقة به لحماية الأدبار ملك عليه مهابة الملك التقى *** قمر التمام به وشمس نهار وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ***......... البيت إلى أن قال: مازال مذ عقدت يداه أزراره *** وسما فأدرك خمسة الأشبار يدني خوافق من خوافق للتقى *** في كل معتبط الغبار مثار قوله: تأبى له نفس مفعول تأبى محذوف: أي: القعود عن الحروب ونحوه، وقوله: موطنة على المقدار أي: تقول نفسه عند اقتحام المهالك: لا يصيبني إلا ما قدر الله؛ والمقدار بمعنى القدر. وورادة: مبالغة واردة، صفة نفس. وشعب: مفعول وارده، بمعنى فروع المنية وأنواعها، مستعار من الشعب التي هي أغصان الشجرة، جمع شعبة. والقن: جمع قناة وهي الرمح. وتدر: فاعله ضمير القنا، من أدرت الريح السحاب واستدرته أي: استحلبته. وكل: مفعوله. والمعاند: العرق الذي يسيل ولا يرقأ، ويقال له عاند أيضاً، وفعله من باب نصر. والنعار: بالعين المهملة من نعر العرق ينعر بالفتح فيهما، أي: فار منه الدم، فهو عرق نعار ونعور. وجشأن: يقال جشأت نفسه، إذا ارتفعت من حزن وفزع. والجأش بالهمز: جأش القلب، وهو رواعة إذا اضطرب عند الفزع، يقال فلان رابط الجأش أي: يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. وطأمن: مقلوب طمأن بالهمز فيهما بمعنى سكن. وثقة فاعله. والتقى: فعل ماض. وقمر التمام فاعله، يقال قمر تمام بفتح التاء وكسرها إذا تم ليلة البدر، وأما ليل التمام فمكسور لا غير، وهو أطول ليلة في السنة. وقوله: ما زال مذ عقدت يداه.. إلى آخره هذا البيت استشهد به النحاة في عدة مواضع، منهم ابن هشام أورده في المغني شاهداً لإيلاء الجملة الفعلية ل مذ ، كما يليها الجملة الاسمية. وأورده أيضاً في شرح الألفية لقوله خمسة الأشبار حيث جرد المضاف من أداة التعريف، وهو حجة على الكوفيين في جوازههم الجمع بين تعريف المضاف باللام والإضافة إلى المعرفة، مستدلين بقول عرب غير فصحاء: الثلاثة الأبواب ، والمسموع تجريد الأول من أداة التعريف، كما قال ذو الرمة أيضاً: وهل يرجع التسليم ويكشف العمى *** ثلاث الأثافي والديار البلاقع وسم: ارتفع وشب، من السمو وهو العلو؛ وأدرك بمعنى بلغ ووصل، وفاعلهما ضمير يزيد. وقوله: خمسة الاشبار ، أراد طول خمسة أشبار بشبرالرجال وهي ثلثا قامة الرجل، وينسب إليها فقال: غلام خماسي. قال ابن درير: غلام خماسي قد أيفع. في الصحاح والعباب: وغلام رباعي وخماسي أي: طوله أربعة أشبار وخمسة أشبار، ولا يقال سداسي ولا سباعي، لأنه إذا بلغ ستة أشبار وسبعة أشبار صار رجلاً. والغلام إذا بلغ خمسة أشبار عندهم تخيلوا فيه الخير والشر، ولهذا قال بعض العرب: أيما غلام بلغ خمسة أشبار فاتهمته قتلته. هذا ما عندي، وأما الناس فقد اختلفوا في تفسيره على أقوال: أحدها قال ابن السيد في شرح شواهد الجمل: ومعنى فأدرك خمسة الاشبار: ارتفع وتجاوز حد الصبا، لأن الفلاسفة زعموا أن المولود إذا ولد لتمام مدة الحمل ولم تغيره آفة في الرحم فإنه يكون في قده ثمانية أشبار من شبر نفسه، وتكون سرته بمنزلة المركز له، فيكون منها إلى نهاية شقه الأعلى أربعة أشبار بشبره، ومنها إلى نهاية شقه الأسفل أربعة أشبار، ومنها إلى أطراف أصابعه من يده معاً أربعة أشبار، حتى أنه لو رقد على صلبه وفتح ذراعيه ووضع ضابط في سرته وأدير لكان شبه الدائرة. قالوا: فما زاد على هذ ونقص فلآفة عرضت له في الرحم، فإنك تجد من نصفه الأعلى أطول من نصفه الأسفل ومن نصفه الأسفل أطول من نصفه الأعلى، ومن يداه قصيرتان، ومن يده الواحدة أقصر من الثانية. فإذا تجاوز الصبي أربعة أشبار فقد أخذ في الترقي إلى غاية الكمال . وقوله أولاً ارتفع وتجاوز حد الصبا شرح به المعنى المراد ولا حاجة بعده إلى نقل كلام الفلاسفة، لأنه خارج عن المقام، بل مفسد لأنه رتب بعده قوله فإذا تجاوز الصبي أربعة أشبار فقد أخذ في الترقي إلى غاية الكمال وهذا غير متصور، لأن الطفل الذي تجاوز أربعة أشبار بشبر نفسه لا يحسن عقد إزاره فضلاً عن الأخذ في الترقي إلى غاية الكمال، وإنما المعنى تجاوز خمسة أشبار بشبر الرجال، وهي ثلثا قامة الرجل كما ذكرنا. ثانيهما أنه أراد ب خمسة الأشبار السيف، قال ابن هشام اللخمي في شرح شواهد الجمل: هذا هو الصحيح لأنه منتهى طول السيف، في الأكثر، كما أن منتهى طول القوس ثلاث أذرع وإصبع. قال الراجز: الرجز أرمى عليها وهي فرع أجمع *** وهي ثلاث أذرع وإصبع وإنما زاد إصبعاً لاختلاف أذرع الناس في الطول والقصر. وربما زادوا شبراً كما قال آخر: وهي ثلاث أذرع وشبر وكما أم منتهى طول القناة أحد عشر ذراعاً. قال عتبة بن مرداس: وأسمر خطياً كأن كعوبه *** نوى القسب قد أرمى ذراعاً على العشر وقال البحتري أيض: البسيط كالرمح أذرعه عشر وواحدة *** فليس يزري به طول ولا قصر ثالثهما أنه أراد عصا الخطبة. وهذا غير مناسب لما قبله ولما بعده. ورابعها أنه أراد الخيزرانة التي كان الخلفاء يحبسونها بأيديهم. وهذا أيضاً غير مناسب كالذي قبله. على أن يزيد ليس خليفة ولا من نسل الخلفاء وأراد هذا القائل الخلفاء الأمويين. خامسها أنه أراد خلال المجد الخمسة: العقل، والعفة، والعدل، والشجاعة، والوفاء. وكانت عندهم معروفة بهذا العدد؛ كذا نقلوه. ولا يخفى أنه لو كان المراد هذا لبقي ذكر الأشبار لغواً. سادسها أنه أراد بخمسة الأشبار القبر لأن البيت مرثية، وهذا باطل لا أصل له، فإنه من قصيدة في مدح يزيد بن المهلب، وكان حياً. واسم زال ضمير يزيد، وخبرها البيت الذي بعده: وهو يدني خوافق إلخ وأراد بالخوافق الرايات وهو جمع خافقه، يقال خفقت الراية بالفتح تخفق بالكسر والضم خفقاً وخفقاناً، إذا تحركت واضطربت. ومعتبط الغبار بالعين والطاء المهملتين، هو الموضع الذي لم يقاتل عليه ولم يثر فيه غبار قبل ما أثاره هذا الممدوح، يقال أعبطت الأرض، إذا حفرت منها موضعاً لم يحفر فيها قبل ذلك. والمثار: المهيج المحرك. وروى بدله: يدني كتائب من كتائب تلتقي *** في ظل معترك العجاج مثار والكتائب: جمع كتيبة وهو الجيش. والمعترك: موضع الاعتراك وهو المحاربة، وأراد ب ظله الغبار الثائر في المعركة، فإنه إذا اشتد لا يرى معه ضوء فيصير كالظل الكثيف. ومذ: اسم، فقيل: إنها ظرف مضاف إلى الجملة، وقيل: إلى زمن مضاف إلى الجملة، وقيل: مبتدأ فيجب تقدير زمان للجملة يكون هو الخبر. والإزار: معروف، وقيل: كنى بعقد الإزار عن شدة لما يحتوي عليه من كساءي المجد. وهذا يناسب تفسيره خمسة الأشبار بخلال المجد الخمسة. وخمسة الأشبار مفعول أدرك بتقدير مضاف كما تقدم. وقال الأعلم، علة ما نفله اللخمي: فاعل سما مضمر لدلالة المعنى عليه، والتقدير: وسما جسمه وطوله. وفاعل أدرك مضمر أيضاً عائد على الجسم الذي دل على المعنى. ومعنى أدرك: انتهى. والأفعال يحمل بعضها على بعض إذا اشتركت في المعنى. والتقدير: انتهى طوله وجسمه خمسة أشبار، ويكون انتصاب خمسة أشبار على أنه مفعول على إسقاط حرف الجر، أي: انتهى إلى خمسة أشبار . أقول: هذا كله تعسف لا ضرورة تدعو إليه، ومثل هذا قول ابن يسعون في شرح شواهد الإيضاح: ويجوز نصبه نصب الظروف بقوله سما، أي: فعلا مقدار خمسة أشبار. فإنه تعسف أيضاً؛ لأنه يكون المدرك غير معلوم ما هو، وبقي قوله أدرك غير مفيد شيئاً. ومن فسر الخمسة بالسيف والعصا والخيزرانة، فهو على حذف مضاف، أي: فأدرك أخذ خمسة الأشبار للقتال به وللحبس باليد وللخطبة. وقال ابن يسعون، بعد جعل الخمسة مفعولاً لأدرك على تقدير معناها السيف وخلال المجد الخمسة، ما نصه: ويجوز نصب خمسة نعتاً لإزاره، وبدلاً منه، وعطف بيان . فتأمل. وأما يزيد فهو ابن المهلب بن أبي صفرة، أحد شجعان العرب وكرمائهم. وشهرته في الشجاعة والكرم غنية عن الوصف. كان في دولة الأمويين والياً على خراسان، وافتتح جرجان ودهستان وطبرستان. وبعد الحجاج صار أمير العراقين. وأجمع علماء التاريخ على أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب كما لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة. وولد يزيد سنة ثلاث وخمسين من الهجرة، وتوفي مقتولاً يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة اثنتين ومائة. وقد ترجمه ابن خلكان وترجم والده بما لا مزيد عليه. وستأتي ترجمة والده في رب من حروف الجر في شرح قوله: الكامل فلقد يكون أخا دم وذبائح والفرزدق هو أبو فراس، واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة من تميم البصري. وهمام بصيغة المبالغة من الهمة.. وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء، بعد أن قال: اسمه همام: وكان للفرزدق إخوة، منهم: هميم بن غالب وبه سمي الفرزدق، والأخطل وكان أسن منه، وأخت يقال لها جعثن كانت امرأة صدق ، وكان جرير في مهاجاته للفرزدق يذكرها بسوء. قال اليربوعي: وكذب عليها جرير وكان يقول: أستغفر الله فيما قلت لجعثن. قال: وكانت إحدى الصالحات. والفرزدق قال صاحب العباب: قال الليث: الفرزدق: الرغيف الذي يسقط في التنور؛ ويقولون أيضاً الفرزدقة. قال: وقال بعضهم: هو فتات الخبز. وقال غيره: الفرزدق القطعة من العجين وأصلها بالفارسية براذدة. وقال ابن فارس: هذه كلمة منحوتة من كلمتين، من فرز ومن دق لأنه دقيق عجن ثم أفرزت منه قطعة، فهي من الإفراز والدقيق فلقب بأحد هذه المعاني. ويشهد للأول ما روي أنه كان أصابه جدري وبقي أثره في وجهه. ويروى أن رجلاً قال له: يا أبا فراس، كأن وجهك أحراج مجموعة! فقال: تأمل هل ترى فيها حر أمك؟ والأحراج: جمع حر بالكسر وحذف لام الفعل، هو فرج المرأة - وأخذ الفرزدق هذا الجواب من كلام أبي الأسود الديلي، فإنه كما في الأغاني قال: كان طريق أبي الأسود إلى المسجد والسوق في بني تيم الله بن ثعلبة، وكان فيهم رجل متفحش يكثر الاستهزاء بمن يمر به، فمر به أبو الأسود يوماً فلما رآه قال لقومه: كأن وجه أبي الأسود وجه عجوز راحت إلى أهلها بطلاق! فضحك القوم وأعرض عنه أبو الأسود. ثم مر بهم، فقال لهم: كأن غضون قفا أبي الأسود غضون الفقاح! فأقبل عليه أبو الأسود فقال: هل تعرف فقحة أبيك فيهن؟ فأفحمه وضحك القوم منه، وقاموا إلى أبي الأسود فاعتذروا إليه، ولم يعاودوه الرجل بعد ذلك . ويحتمل أنه لقب بالمعنى الثالث، وبه صرح ابن قتيبة في أدب الكاتب فقال: والفرزدق قطع العجين، واحدها فرزدقة، ومنه سمي الرجل، وهو لقب له لأنه كان جهم الوجه . ويحتمل أنه لقب بالمعنى الثاني بأن شبه غضون وجهه بفتات الخبز. وقال ابن السيد في شرح شواهد الجمل ، وتبعه فيها ابن هشام اللخمي وابن خلف وغيرهما: قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: وإنما سمي الفرزدق لغلظه وقصره، شبه بالفتيتة التي تشربها النساء وهو الفرزدقة . أقول: لم أر الفرزدقة بهذا المعنى في اللغة، ولا الفتيتة بمعنى ما ذكره. على أن ابن قتيبة لم يذكر في الطبقات شيئاً في تلقيبه بالفرزدق. ثم رأيت في الأغاني في ترجمته أن الفرزدق الرغيف الضخم الذي يجففه النساء للفتوت. وروى أن الجهم ابن سويد بن المنذر الجرمي قال له: ما وجدت أمك اسماً لك إلا الفرزدق الذي تكسره النساء في سويقها! - قال: والعرب تسمي خبز الفتوت الفرزدق - فقال له الفرزدق: أحق الناس أن لا يتكلم في هذا أنت، لأن اسمك اسم متاع المرأة؛ واسم أبيك اسم الحمار، واسم جدك اسم الكلب. وروى بسنده عن أبي عمرو بن العلاء قال: أخبرت عت هشام العنزي أنه قال: جمعني والفرزدق مجلس، فتجاهلت عليه فقلت: من أنت؟ قال: أما تعرفني! قلت: لا. قال: فأنا أبو فراس؟ قلت: ومن أبو فراس؟ قال: أنا الفرزدق. قلت: ومن الفرزدق؟ قال: وما تعرف الفرزدق؟! قلت: أعرف الفرزدق أنه شيء تتخذه النساء عندنا بالمدينة تتسمن به، وهو الفتوت. فضحك وقال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم . وقال السيد المرتضى في أماليه: والفرزدق لقب، وإنما لقب به لجهامة وجهه وغلظه، لأن الفرزدقة هي الفرزدقة هي القطعة الضخمة من العجين، وقيل أنها الخبزة الغليظة التي يتخذ منها النساء الفتوت . وفي الأغاني بسنده إلى محمد بن وهيب الشاعر قال: جلست بالصرة إلى جنب عطار فإذا أعرابية سوداء قد جاءت فاشترت من العطار خلوقاً، فقلت له: تجدها اشترته لابنتها، وما ابنتها إلا خنفساء. فالتفتت إلي متضاحكة وقالت: لا والله! إلا مهاة جيداء، وإن قامت فقناة، وإن قعدت فحصاة، وإن مشت فقطاة؛ أسفلها كثيب، وأعلاها قضيب؛ لا كفتياتكم اللواتي تسمنونهن بالفتوت. ثم انصرفت وهي تقول: الرجز إن الفتوت للفتاة مضرطه *** يكربها في البطن حتى تثلطه فلا أعلمني ذكرتها إلا أضحكني ذكره: وبالجملة هو وجرير والأخطل النصراني في الطبقة الأولى من الشعراء الإسلاميين. واختلفت العلماء بالشعر فيه وفي جرير في المفاضلة. وكان يونس يفضل الفرزدق ويقول: لولا الفرزدق لذهب شعر العرب. وقال ابن شبرمة: الفرزدق أشعر الناس. وقال أبو عمرو بن العلاء: لم أر بدوياً أقام في الحضر إلا فسد لسانه، غير رؤبة والفرزدق. وفي العمدة لابن رشيق: كتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن أشعر الشعراء في الجاهلية وأشعر شعراء وقته. فقال: أشعر الجاهلية امرؤ القيس، وأضربهم مثلاً طرفة. وأما شعراء الوقت فالفرزدق أفخرهم، وجرير أهجاهم، والأخطل أوصفهم . وقد طبق المفصل الأصبهاني في قوله حين سئل عنهما: من كان يميل إلى جودة الشعر وفخامته وشدة أسره فليقدم الفرزدق، ومن كان يميل إلى أشعار المطبوعين والكلام السمح الجزل فليقدم جريراً. قال أبو عبيدة: وكان الفرزدق يشبه من شعراء الجاهلية بزهير. وكان صعصعة جد الفرزدق، كما قال ابن قتيبة في الطبقات: عظيم القدر في الجاهلية؛ وكان اشترى ثلاثين موؤدة ثم أسلم وصار صحابياً. وأم صعصعة قفيرة - بتقديم القاف على الفاء وبالتصغير - بنت مسكين الدارمي، وكانت أمها أمة وهبها كسرى لزرارة، فوهبها زرارة لهند بنت يثربي، فوثب أخو زوجها، وهو مسكين بن حارثة بن زيد بن عبد الله بن دارم، على الأمة فأحبلها فولدت له قفيرة، فكان جرير يعير الفرزدق بها. وكان لصعصعة قيون - والقين الحداد - منهك جبير، ووقبان، وديسم، فلذلك جعل جريراً مجاشعاً قيوناً. وكان جرير ينسب غالب بن صعصعة إلى جبير فقال: المتقارب وجدنا جبير أبا غالب *** بعيد القرابة من معبد يعني معبد بن زرارة. وكان يعيبهم بالخزيرة، وذلك أن ركباً من مجاشع مروا بشهاب التغلبي فسألهم أن ينزلوا، فحمل إليهم خزيرة، فجعلوا يأكلون وهي تسيل على لحاهم وهم على رواحلهم. والخزيرة - بفتح الخاء وكسر الزاي المعجمتين وبالراء المهملة -: قطع لحم صغار توضع في القدر بماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق. فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. ويقال خزير أيضاً بدون تاء التأنيث. وأما غالب أبو الفرزدق فإنه كان يكنى أبا الأخطل. واستجير بقبره بكاظمة، فاحتملها عنه الفرزدق. وفي نهج البلاغة: وقال علي رضي الله عنه لغالب بن صعصعة أبي الفرزدق، في كلام دار بينهما: ما فعلت إبلك الكثيرة؟ قال: ذعذعتها الحقوق يا أمير المؤمنين. فقال رضي الله عنه: ذاك أحمد سبيلها! قوله ذعذعتها بذالين معجمتين وعينين مهملتين بمعنى فرقتها. يقال ذعذعته فتذعذع؛ وذعذعة السر: إذاعته. قال شارح نهج البلاغة ابن أبي الحديد: دخل غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي على أمير المؤمنين، رضي الله عنه، أيام خلافته - وغالب شيخ كبير، ومعه ابنه همام الفرزدق وهو غلام يومئذ - فقال له علي رضي الله عنه: من الشيخ؟ قال: أنا غالب بن صعصعة. قال: ذو الإبل الكثيرة؟قال: نعم. قال: ما فعلت إبلك؟ قال: ذعذعتها الحقوق وأذهبتها الحمالات والنوائب، قال: ذاك أحمد سبيلها، من هذا الغلام معك؟ قال: هذا ابني. قال: ما اسمه؟ قال: همام، وقد رويته الشعر يا أمير المؤمنين وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعراً مجيداً. فقال: أقرئه القرآن فهو خير له. فكان الفرزدق بعد يروي هذا الحديث ويقول: ما زالت كلمته في نفسي. حتى قيد نفسه بقيد وآلى ألا يفكه حتى يحفظ القرآن. فما فكه حتى حفظه . وقد روى عنه، عليه السلام، أحاديث وعن غيره من الصحابة. وعاش حتى قارب المائة، ومات بعلة الدبيلة، رحمه الله تعالى. قال النويري في تاريخه: مات الفرزدق في سنة عشر ومائة، وله إحدى وتسعون سنة، ومات فيها جريراً أيضاً. وقال السيد المرتضى، قدس الله سره، في أماليه. الفرزدق مع تقدمه في الشعر وبلوغه فيه إلى الذروة العليا، والغاية القصوى، شريف الآباء كريم البيت له ولآبائه مآثر لا تدفع، ومفاخر لا تجحد.. وكان مائلاً إلى بني هاشم، ونزع في آخر عمره عما كان عليه من القذف والفسق، وراجع طرقة الدين. على أنه لم يكن في خلال فسقه منسلخاً من الدين جملة، ولا مهملاً لأمره أصلاً.. روي أنه تعلق بأستار الكعبة، وعاهد الله على ترك الهجاء والقذف، وقال: ألم ترني عاهدت ربي وإنني *** لبين رتاج قائم ومقام على حلفة لا أشتم الدهر مسلم *** ولا خارجاً من في زور كلام أطعتك يا إبليس تسعين حجة *** فلما انقضى عمري وتم تمامي فزعت إلى ربي وأيقنت أنني *** ملاق لأيام الحتوف حمامي وأنشد بعده: وهو وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد على أنه يمكن لمح الوصف مع العلمية، أي: يمكن أن يلاحظ بعد العلمية الوصف الذي كان قبلها وبملاحظته يوضع علماً لنبينا صلى الله عليه وسلم بملاحظة معناه، فإن معناه في اللغة، كما قال صاحب العباب وغيره: الذي كثرت خصاله المحمودة؛ كما قال الأعشى في مدح النعمان ابن منذر: إليك أبيت اللعن كان كلاله *** إلى الماجد الفرع الجواد المحمد وبعد أن صار علماً يجوز أن يلحظ معناه اللغوي كما لحظه حسان في هذا البيت. وهو أول أبيات ثمانية مدح بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. والصواب في روايته شق له من اسمه بدون واو، فإنها للعطف ولم يتقدم شيء يعطف عليه؛ لكن يبقى الشعر مخروماً - والخرم جائر عندهم، وهو بالخاء المعجمة والراء المهملة، عبارة عن حذف أول الوتد المجموع في أول البيت، وذلك نحو فعولن ومفاعيلن ومفاعلتن - كما أن ضمير له راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومفعوله محذوف أي: شق له اسماً من اسمه، واسم الله تعالى المشقوق منه: محمود، بمعنى الحمد لا يكون إلا له، ولا يقع إلا عليه، فأراد تبارك وتعالى أن يشرك نبيه في اسم من هذا الوصف تعظيم له، صلى الله عليه وسلم، فسماه محمداً، كما سيأتي بيانه. وقوله من اسمه بهمزة الوصل، وسمعت بعضهم يقرؤه بهمزة القطع، وهو لحن. وقوله ليجله روى بدله كي يجله وبقية الأبيات هذه: نبي أتانا بعد يأس وفترة *** من الرسل والأوثان في الأرض تعبد فأمسى سراجاً مستنيراً وهادي *** يلوح كما لاح الصقيل المهند وأنذرنا ناراً وبشر جنة *** وعلمنا الإسلام فالله نحمد وأنت إله العرش ربي وخالقي *** بذلك ما عمرت في الناس أشهد تعاليت رب الناس عن قول من دع *** سواك إلهاً، أنت أعلى وأمجد لك الخلق والنعماء والأمر كله *** فإياك نستهدي وإياك نعبد لأن ثواب الله كل موحد *** جنان من الفردوس فيها يخلد كذا في ديوانه من رواية أبي سعيد السكري. ورأيت في المواهب اللدنية قال مؤلفه: ثم إن في اسمه محمد خصائص، منها أنه تعالى شقه من اسمه المحمود كما قال حسان بن ثابت: أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد وعلى هذه الرواية فالواو للعطف، وفاعل شق ضمير الإله، والضمير في له راجع للنبي. ثم قال صاحب المواهب: وأخرج البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول: وشق له من اسمه ليجله... البيت وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي عام، كما ورد من حديث أنس بن مالكمن طريق أبي نعيم في مناجاة موسى. وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال: إن الله أنزل على آدم عصياً بعدد الأنبياء والمرسلين ثم أقبل على ابنه شيث فقال: أي بني، أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى، وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسماً مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين، ثم إني طفت السموات فلم أر في الجنة موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه؛ وإن ربي أسكنني الجنة فلم أر في الجنة قصراً ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوباً عليها؛ وبقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، فاكثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها. ولما سماه جده عبد المطلب بمحمد قيل له: كيف سميته باسم ليس لأحد من آبائك وقومك؟ فقال: لأني أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم؛ وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب كما ذكر حديثها علي القيرواني العابر في كتاب البستان قال: كان عبد المطلب قد رأى في المنام كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها؛ فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه، يتبعه أهل المشرق وأهل المغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه محمداً، مع ما حدثته به أمه آمنة حين قيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وضعته فسميه محمداً. قال السهيلي: محمد منقول من صفة في معنى محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، لأن المحمد الذي حمد مرة بعد مرة، كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدوح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سماه به قبل أن يسمى به. علم من أعلام نبوته عليه السلام، إذ كان اسمه صادقاً عليه، فهو صلى الله عليه وسلم محمود في الدنيا بما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد. ومحمود أيضاً من أسمائه صلى الله عليه وسلم، قال صاحب المواهب: اعلم أن من أسماء الله تعالى الحميد ومعناه المحمود، لأنه تعالى حمد نفسه وحمده عباده؛ وقد سمي الرسول صلى الله عليه وسلم بمحمود. وكذا وقع اسمه في زبور داود. وقال الشامي في سيرته: ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم المحمود، وهو المستحق لأن يحمد لكثرة خصاله الحميدة. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: فأصبح محموداً إلى الله راجع *** يبكيه حق المرسلات ويحمد وهو من أسمائه تعالى. قال حسان أيضاً: وشق له من اسمه ليجله ***........ البيت. وعليه فهو اسم مشترك بين الله وبين نبيه، ولم أر من صرح به غير الشامي. وأما أحمد فهو اسمه عليه الصلاة والسلام الذي سمي به على لسان عيسى وموسى. قال السهيلي: هو منقول من الصفة التي معناها التفضيل، فمعنى أحمد: أحمد الحامدين لربه، وكذلك هو في المعنى لأنه يفتح عليه في المقام المحمود محامد لم تفتح على أحد قبله فيحمد بها ربه، ولذلك يعقد له لواء الحمد. وقال السخاوي في سفر السعادة: أحمد هو مأخوذ من الحمد كما أخذ من الحمرة أحمر ومن الصفرة أصفر، وأحمد أبلغ من محمد، كما أن أحمر وأصفر أبلغ من محمر ومصفر، لأنه في أحمر وأصفر ألزم، وليس أحمد بمنقول من الفعل المضارع، ولا هو أفعل فتقول كأكرم، ومن هذا الله أكبر . وحسان هو أبو الوليد بن ثابت بن المنذر الأتصاري من بني النجار: وأمه الفريعة بنت خنس من بني الخزرج. والفريعة بالفاء والعين المهملة مصغر قرعة بالتحريك وهي القملة الكبيرة. قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: وهو جاهلي إسلامي متقدم الإسلام، إلا أنه لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لأنه كان يرمى بالجبن لعلة أصابته. وكانت له ناصية يسدلها بين عينيه. وكان يضرب بلسانه روثة أنفه من طوله، ويقول: والله لو وضعته على شعر لحلقه، وعلى صخر لفلقه. وعاش في الجاهلية ستين سنة، فهو من المخضرمين، ومات في زمن معاوية وكف بصره في آخر عمره . وأنشد بعده: وهو أتى دونها ذب الرياد كأنه *** فتى فارسي في سراويل رامح على أن سراويل غير منصرف عند الأكثرين كما هنا: وهذا البيت من قصيدة لتميم بن أبي بن مقبل يصف الثور الوحشي وضمير دونها لأنثاه، ودون بمعنى قدام. وروى: يمشي بها ذب الرياد وروى أيضاً يرود بها . والذب - بفتح الذال المعجمة وتشديد الموحدة -، قال في الصحاح: هو الثور الوحشي، ويقال له ذب الرياد لأنه يرود: أي: يذهب ويجيء ولا يثبت في موضع. قال النابغة الذبياني يصف ناقته: البسيط كأنما الرحل منها فوق ذي جدد *** ذب الرياد إلى الأشباح نظار وزاد في العباب فقال: ورجل ذب الرياد: إذا كان زواراً للنساء. قال عبد من عبيد بجيلة: البسيط قد كنت فتاح أبواب مغلقة *** ذب الرياد إذا ما خولس النظر وقال القالي في أماليه: يقال: فلان ذب إذا كان لا يستقر في موضع، ومنه قيل للثور الوحشي: ذي الرياد . وأنشد بيت الشاهد. وقد خالف أبو هلال العسكري في ديوان المعاني فزعم أن ذي الرياد اسم للوعل. ونسب البيت إلى الراعي فقال: وقد أحسن الراعي في وصف الوعل؛ ثم قال وذب الرياد علم على الوعل. والصواب ما قدمناه فيهما. شبه الشاعر ما على قوائم الثور الوحشي من الشعر بالسراويل، وهو من لباس الفرس، ولهذا شبهه بفتى فارسي، وشبه قرنه بالرمح ولهذا قال: رامح أي: ذو رمح؛ فقوله: فتى خبر كأن، وفارسي صفة فتى؛ وفي سراويل حال من ضمير فارسي، إذ هو بمعنى منسوب إلى الفرس، وصفة لفارسي، ورامح صفة ثانية لفتى. والسراويل يذكر ويؤنث كما في العباب ، وجر بالفتحة لأنه غير منصرف، قال الشارح المحقق: واختلف في تعليله فعند س وتبعه أبو علي أنه اسم أعجمي مفرد أعرب كما أعرب الآجر، ولكنه أشبه من كلامهم ما لا ينصرف قطعاً نحو قناديل، فحمل على ما شابهه فمنع الصرف . أقول: الذي رأيته في تذكرة أبي علي مخالفة س فإنه بعد أن نقل كلام س قال: سراويل وإن كان واحداً فهو على مثال الجمع الذي لا يكون واحد على مثاله، فأنت ما لم تسم به فهو منصرف كآجر، الذي ليس في الواحد ولا غيره على مثاله، فإذا سميت به صار مثل شراحيل. وكأن أبا علي فهم من قول س: أنه أعجمي كما أعرب الآجر، أنه يريد يصرف كما يصرف الآجر؛ وليس كذلك، بل مراده أنه معرب لا مبني كما أن الآجر معرب، بدليل قول س بعده: إلا أن سراويل أشبه من كلامهم ما لا ينصرف في نكرة ولا معرفة. وأبو هلال العسكري هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى ابن مهران اللغوي العسكري. وكان تلميذ أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، وافق اسمه اسم شيخه واسم أبيه واسم أبيه، وهو عسكري أيضاً، فربما اشتبه ذكره بذكره إذا قيل الحسن بن عبد الله العسكري. وقد ترجمنا أبا أحمد العسكري في الشاهد الثامن والعشرين. قال أبو طاهر السلفي: سألت الرئيس أبا المظفر الأبيوردي بهمذان عنه فأثنى عليه ووصفه بالعلم والعفة معاً، قال: كان يبزز احتزازاً من الطمع والدناءة والتبذل، وكان الغالب عليه الأدب والشعر؛ وله كتاب في اللغة سماه التلخيص، وهو كتاب مفيد؛ وكتاب صناعتي النظم والنثر، وهو أيضاً كتاب مفيد جداً . قال ياقوت في معجم الأدباء: وذكر غيره أن أبا هلال كان ابن أخت أبي أحمد وله من الكتب بعد ما ذكره السفلي: كتاب جمهرة الأمثال . كتاب معاني الأدب . كتاب أعلام المعاني ، في معاني الشعر. كتاب شرح الحماسة . كتاب الأوائل . كتاب الفرق بين المعاني . كتاب نوادر الواحد والجمع . كتاب من احتكم من الخلفاء إلى القضاة . كتاب التبصرة ، وهو كتاب مفيد. كتاب الدرهم والدينار . كتاب العمدة . كتاب فضل الغنى على العسر . كتاب ما تلحن به الخاصة . كتاب المحاسن في تفسير القرآن ، خمس مجلدات. وكتاب ديوان شعره . قال ياقوت: وأما وفاته فلم يبلغني فيها شيء، غير أني وجدت في آخر كتاب الأوائل من تصنيفه: وفرغنا من إملاء هذا الكتاب يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة . هذا ما ذكره ياقوت. وله عندي كتاب الفروق في اللغة . وكتاب ديوان المعاني ؛ وهما دالان على غزارة علمه. ومن شعره: إذا كان مالي مال من يلقط العجم *** وحالي فيكم حال من حاك وحجم فأين انتفاعي بالأصالة والحج *** وما ربحت كفي على العلم والحكم! ومن ذا الذي في الناس يبصر حالتي *** ولا يلعن القرطاس والحبر والقلم وله أيضاً: جلوسي في سوق أبيع واشتري *** دليل على الأنام قرود ولا خير في قوم يذل كرامهم *** ويعظم فيهم نذلهم ويسود ويهجوهم عني رثاثة كسوتي *** هجاء قبيحاً ما عليه مزود! وأما تميم صاحب الشاهد فهو ابن أبي بن مقبل، وأبي بالتصغير وتشديد الياء، ابن عوف بن حنيف بن قتيبة بن العجلان بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وكان يبكي أهل الجاهلية. وبلغ مائة وعشرين سنة. وكان يهاجي النجاشي أيضاً؛ فهجاه النجاشي فاستعدى عليه عمر رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، هجاني. فقال عمر: يا نجاشي ما قلت؟ قال: يا أمير المؤمنين، قلت ما لا أرى فيه عليه بأساً. وأنشده: إذا الله جازى أهل لؤم بذلة *** فجازى بني العجلان رهط ابن مقبل فقال عمر: إن كان مظلوماً استجيب له، وإن لم يكن مظلوماً لم يستجب له. قالوا: وقد قال أيضاً: قبيلته لا يغدرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حبة خردل فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك! قالوا: فإنه قال: ولا يردون الماء إلا عشية *** إذا صدر الوراد عن كل منهل فقال عمر: ذلك أقل للزحام!قالوا: فإنه قال: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم *** وتأكل من كعب بن عوفل ونهشل فقال عمر: يكفي ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه! قالوا: فإنه قال: وما سمي العجلان إلا لقولهم *** خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل فقال عمر: كلنا عبد، وخير القوم خادمهم! قال تميم: فسله يا أمير المؤمنين عن قوله: أولئك إخوان اللعين وأسرة ال *** هجين ورهط الواهن المتذلل فقال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه! فحبسه، وقيل جلده. قال صاحب زهر الآداب: كان بنو العجلان يفخرون بهذا الاسم، إذ كان عبد الله بن كعب جدهم إنما سمي العجلان لتعجيله القرى للضيفان: وذلك أن حياً من طيئ نزلوا به فبعث إليهم بقراهم عبداً له، وقال له: اعجل عليهم. ففعل العبد فأعتقه لعجلته؛ فقال القوم: ما ينبغي أن يسمى إلا العجلان. فسمي بذلك فكان شرفاً لهم؛ حتى قال النجاشي هذا الشعر فصار الرجل إذا سئل عن نسبه قال: كعبي. ويرغب عن العجلان . قال: وزعمت الرواة أن بني العجلان استعدوا على النجاشي. وذكر هذه الحكاية. وأنشد بعده: وهو عليه من اللؤم سراولة *** فليس يرق لمستعطف على أن السراويل عند المبرد عربي، وهو جمع سروالة، والسروالة: قطعة خرقة. أقول: هذا البيت قيل مصنوع، وقيل قائله مجهول، والذي أثبته قال: إن سروالة واحدة السراويل، وكيف تكون سروالة بمعنى قطعة خرقة، مع الحكم بأنها واحدة السراويل، هذا لا يكون! وقال السيرافي: سروالة لغة في السراويل، إذ ليس مراد الشاعر عليه من اللؤم قطعة من جزء السراويل. وسروالة ، في البيت: مبتدأ مؤخر وعليه خبر مقدم. وقوله: من اللؤم ، كان في الأصل صفة لسروالة، فلما قدم عليه صار حالاً منه، هذا هو المقرر. وقال العيني: ومن اللؤم صفة لسروالة فيكون محلها الرفع. وهذا خطأ. واللؤم بالهمز: شح النفس ودناءة الآباء. وأنشد بعده: وهو جاء الشتاء وقميصي أخلاق *** شراذم يعجب منه التواق على أن شراذم لفظة جمع بالاتفاق. أقول: نسب أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات هذا البيت إلى بعض الأعراب، وقال: الأخلاق والأرمام والأرماث لا تكون إلا في الخلقان، وقال: إنما نعت الواحد بالجمع لكثرته فيه: كما قالوا برمة أعشار إذا انكسرت، أريد أن كسرها كثير. وفي العباب: وقد خلق الثوب - بالضم - خلوقة، أي: بلي؛ وثوب أخلاق: إذا كانت الخلوقة فيه كلها، كما قالوا برمة أعشار وأرض سباسب. وفي الزاهر لابن الأنباري: وقال الفراء: من العرب من يقول قميص أخلاق وجبة أخلاق، فيصف الواحد بالجمع، لأن الخلوقة في الثوب تتسع فيسمى كل موضع منها خلقا ثم يجمع على هذا المعنى، ومن قال جبة خلق قالوا في التثنية: جبتان خلقان، وفي الجمع: جباب أخلاق. والشراذم بالشين والذال المعجمتين: جمع شرذمة بكسر الأول والثالث، قال في الصحاح: الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشيء، وثوب شراذم أي: قطع . والتواق بفتح التاء المثناة الفوقية وتشديد الواو إلى الشيء بمعنى اشتاقت، قال الشاعر: الرجز المرء تواق إلى ما لم ينل وقال صاحب العباب: وروى النواق بالنون؛ وقال في نوق: والنواق من الرجال الذي يرود الأمور ويصلحها. وعلى هذا فيجوز أن يراد به أيضاً الرفاء ونحوه. وأنشد بعده: وهو ولو كان عبد الله مولى هجوته *** ولكن عبد الله مولى مواليا على أن بعض العرب يجر نحو جوار بالفتحة فيقول: مررت بجواري كما قال الفرزدق مولى مواليا بإضافة موالي إلى مولى والألف للإطلاق،وجمهور العرب يقول: مررت بجوار، ومولى موال، بحذف الياء والتنوين، في الجر والرفع، وأما في النصب عندهما فلا تحذف الياء بل تظهر الفتحة عليها، نحو رأيت جواري. والمراد بجوار: ما كان جمعاً على هذا الوزن معتل اللام. وهذا خلاف ما قاله س، قال الأعلم في شرح أبياته: الشاهد في إجرائه موالي على الأصل ضرورة، وكان الوجه موال كجوار ونحوه من الجمع المنقوص، فاضطر إلى الإتمام والإجراء على الأصل كراهة للزحاف . وكذا قال صاحب الصحاح قال: وإنما قال مواليا لأنه رده إلى أصله للضرورة، وإنما لم ينون لأنه جعله بمنزلة غير المعتل الذي لا ينصرف . وصاحب اللباب وغيره جعله قولاً للنحويين لا لغة لبعض العرب، وقال: ونحو جوار حكمه حكم قاض رفعاً وجراً على الأعرف، وحكم ضوارب نصباً، وقيل نصباً وجراً. وبهذا سقط اعتراض ابن أبي إسحاق على الفرزدق في قوله: ولو كان عبد الله مولى هجوته ***.......... البيت والمولى: الحليف، هو الذي يقال له مولى الموالاة، والحليف: المعاهد، يقال منه تحالفاً، إذا تعاهدا وتعاقدا على أن يكون أمرهما واحداً في النصرة والحماية، وبينهما حلف وحلفة بالكسر فيهما أي: عهد. والرجل إذا كان ذليلاً يوالي قبيلة وينضم إليها ليعتز بهم، وإذا والى مولى كان أذل ذليل، وكذلك القبيلة توالي. وأراد بالموالي الحضرميين، وكانوا موالي بني عبد شمي ابن عبد مناف، يقول: لو كان عبد الله ذليلاً لهجوته، ولكنه أذل من الذليل لأنه حليف الحضرميين، وهم حلفاء بني عبد شمس. وهذا مبالغة في الهجو. والحضرمي: منسوب إلى حضرموت، وحضرموت: بلد وقبيلة. والصواب في رواية البيت: لو كان عبد الله مولى هجوته بحذف الواو وجعل البيت مخروماً؛ فإنه بيت واحد ولم يتقدمه شيء حتى تكون الواو عاطفة. وعبد الله هو عبد الله بن أبي إسحاق الزيادي الحضرمي. قال الواحدي في كتاب الأغراب، في علم الإعراب: كان عبد الله من تلامذة عنبسة بن معدان، وهو من تلامذة أبي الأسود الدؤلي واضح النحو. وليس في أصحاب عنبسة مثل عبد الله، واسمه ميمون الأقرن، وهو الذي كان يرد على الفرزدق قوله: وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحت وجلف فهجاه الفرزدق بقوله: فلو كان عبد الله مولى هجوته..... البيت وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم. وفرغ النحو وقاسه. وكان أبو عمرو بن العلاء قد أخذ عنه النحو. ومن أصحاب عبد الله الذين أخذوا عنه النحو عيسى بن عمر الثقفي، ويونس بن حبيب، وأبو الخطاب الأخفش . وقال أبو بكر محمد بن عبد الملك بن السراج المعروف بالتاريخي، في تاريخ النحاة: وتوفي عبد الله هذا سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه بلال بن أبي بردة. واعلم أنهم قد ذكروا في سبب هجوه الفرزدق لعبد الله أن عبد الله لحنه في قوله إلا مسحت وجلف فإنه عطف المرفوع على المنصوب كما نقله الواحدي وغيره. وسيأتي إن شاء الله شرح هذا البيتمستوفي في باب العطف، فلما بلغ الفرزدق تلحين عبد الله إياه هجاه بهذا البيت، فلما بلغ هجو الفرزدق لعبد الله قال: قولوا للفرزدق لحنت في هذا البيت أيضاً، حيث حركت موالي في الخفض. هكذا رووا هذه الحكاية؛ والذي رأيته في تاريخ النحاة للتاريخي، المذكور آنفاً، قال: حدثني ابن الفهم عن محمد بن سلام قال: أخبرنا يونس أن ابن أبي إسحاق قال للفرزدق، في مديحه يزيد بن عبد الملك بن مروان: مستقبلين شمال الشام تضربن *** على زواحف تزجى مخها رير فقال له ابن أبي إسحاق: أسأت! موضعها رفع، وإن رفعت أقويت! وألح الناس على الفرزدق في ذلك فقلبها فقال: على زواحف نزجيها محاسير ثم ترك الرواة هذا ورجعوا إلى القول الأول. قال يونس: وهذا جيد. فلما أكثر بن أبي إسحاق على الفرزدق هجاه فقال: لو كان عبد الله مولى هجوته.... البيت وقد حكى مثل حكاية التاريخي أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة ، قال: وقد حكى أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي في إسناد ذكره، في أخبار الفرزدق: أن عبد الله بن أبي إسحاق النحوي قال: إن الفرزدق لحن في قوله: على زواحف تزجى مخها رير وأن ذلك بلغ الفرزدق فقال: أما وجد هذا المنتفخ الخصيين لبيتي مخرجاً في العربية؟ أما إني لو أشاء لقلت: على زواحف نزجيها محاسير ولكنني والله لا أقوله! ثم قال: فلو كان عبد الله مولى هجوته.... البيت فبلغ ذلك عبد الله فقال: عذره شر من ذنبه، والخفض في رير جيد وتقديره على زواحف رير مخها تزج . كلامه. وهذا البيت مركب من بيتين وهم: البسيط مستقبلين شمال الشام تضربن *** بحاصب كنديف القطن منثور على عمائمنا يلقى وأرحلن *** على زواحف نزجيها محاسير والشمال هي الريح المعروفة وهي مفعولة. وجملة تضربن: حال منها. والحاصب بمهملتين: الريح التي تثير الحصباء. والزواحف: جمع زاحفة بالزاي المعجمة والحاء المهملة، وهي الإبل التي أعيت فجرت فراسنها، يقال زحف البعير إذا أعيا فجر فرسنه أي: خفه. ونزجيه: نسوقها، والإزجاء: السوق. ومحاسير: جمع محسور، من حسرت البعير حسراً إذا أتعبته فهو حسير أيضاً، إذا أعيا. والرير ، على ما في الرواية الأخرى، هو بإهمال الراءين؛ قال الفراء: مخ رير بفتح الراء وكسرها، ورار أيضاً: أي: فاسد ذائب من الهزال. ومن الأمثال: أسمح من مخه الرير قال الزمخشري في أمثاله: الرير والرار: المخ الذي قد ذاب في العظم حتى كأنه ماء؛ وسماحه: ذوبه وجريانه. وترجمة الفرزدق ذكرت في الشاهد الثلاثين. تتمة قد تكلم ابن جني، في شرح تصريف أبي عثمان المازني المسمى بالتصريف الملوكي، بتفصيل جيد في الكلام على تنوين جوار أحببت أن أذكره هنا قال: فأما جوار وغواش ونحوهما، فللسائل أن يقول: لم صرف هذا الوزن، وبعد ألفه حرفان؟ وقد قال أبو إسحاق الزجاج في هذا ما أذكره لك: وهو أنه ذهب إلى أن التنوين إنما دخل في هذا الوزن لأنه عوض من ذهاب حركة الياء، فلما جاء التنوين وهو ساكن والياء قبله ساكنة، التقى ساكنان فحذفت الياء فقيل هؤلاء جوار قيل هذا قاض ومررت بقاض؛ يريد أن أصله هؤلاء جواري، ثم أسكنت الياء استثقالاً للضمة عليها فبقيت جواري، ثم عوض من الحركة التنوين فالتقى ساكنان فوجب حذف الياء، ألا ترى أن الحركة لما ثبتت في موضع النصب في قولك رأيت جواري بم يؤت بالتنوين؟ لأنه إنما كان يجيء عوضاً من الحركة، فإذا كانت الحركة ثابتة لم يلزم أن يعوض منها شيء. وأنكر أبو علي هذا القول على أبي إسحاق وقال: ليس التنوين عوضاً من حركة الياء، وقال: لأنه لوكان كذلك لوجب أن يعوض التنوين من حركة الياء في يرمي، ألا ترى أن أصله يرمي بوزن يضرب؟ فكما لم نرهم عوضوا من حركة هذه الياء. كذلك لا يجوز أن يكون التنوين في جوار عوضاً من ذهاب حركة الياء. فإن انتصر منتصر لأبي إسحاق فقال: إلزام أبي علي إياه لا يلزمه، لأن له أن يقول إن جوار ونحوه اسم والتنوين بابه الأسماء، ويرمى فعل والتنوين لا مدخل له فيه، فلذلك لم يلزم أن يعوض من حركته. قيل له: ومثال مفاعل أيضاً لا يدخله التنوين! فإن قال: مفاعل اسم والاسم مما يصح فيه التنوين. قيل له: لو كان الأمر كذلك لوجب أن يعوض من حركة الألف في حبلى ونحوها تنويناً. فإن قال: لو عوض لدخل التنوين ما لا ينصرف على وجه من الوجوه! قيل: وكذلك مثال مفاعل لا ينصرف معرفة ولا نكرة. فإن قال: مفاعل قد ينصرف في بعض المواضع في ضرورة الشعر، وحبلى وبابها لم يصرف قط لضرورة. قيل: إنما لم يصرفوا حبلى للضرورة، لأن التنوين كان يذهب الألف من اللفظ فيحصل على ساكن وهو التنوين، وقد كانت الألف قبله ساكنة فلا يزدادون أكثر مما كان قبل الصرف، فتركوا الصرف في نحو حبلى لذلك. ألا ترى أنهم يصرفون نحو حمراء فيقولون مررت بحمراء للضرورة؟ لأنهم قد ازدادوا حرفاً يقوم به وزن البيت، وهمزة حمراء كألف سكرى وحبلى. والقول في هذا ما ذهب إليه الخليل وسيبويه: من أن الياء حذفت حذفاً لا لالتقاء الساكنين، فلما حذفت الياء صار في التقدير جوار بوزن جناح، فلما نقض عن وزن فواعل دخله التنوين كما يدخل جناحاً؛ فدل على أن التنوين إنما دخله لما نقض عن وزن ضوارب، ولذا إذا تم الوزن في النصب وظهرت الياء امتنع التنوين أن يدخل، لأنه قد تم في وزن ضوارب، فالتنوين على هذا معاقب للياء لا للحركة، إذ لو كان معاقباً للحركة لوجب أن يدخل في يرمي لأن الحركة قد حذفت من الياء في موضع الرفع. وشيء آخر يدل عندي على أن التنوين ليس بدلاً من الحركة، وذلك أن الياء في جوار قد عاقبت الحركة في الرفع والجر، وفي الغالب، وإذا كان كذلك فقد صارت الياء لمعاقبتها الحركة تجري مجراها. فكما لا يجوز أن يعوض من الحركة وهي ثابتة، كذلك لا يجوز أن يعوض منها وفي الكلمة ما هو معاقب لها وجار مجراها. وقد دللت في هذا الكتاب على أن الحركة قد تعاقب الحرف وتقوم مقامه في كثير من كلام العرب. فإن قال قائل: فلم ذهب الخليل وسيبويه إلى أن الياء قد حذفت حذفاً حتى أنه لما نقص وزن الكلمة عن بناء فواعل دخلها التنوين؟ قيل: لأن الياء قد حذفت في مواضع لا تبلغ أن تكون في الثقل، مثل هذا كقوله تعالى: {الكبير المتعال}، ويوم يدع الداع ، ويوم التناد . وقال الشاعر: الكامل وأخو الغوان متى يشب يصرمنه وقال آخر: الوافر دوامي الأيد يخبطن السريح فاكتفى في جميع هذا بالكسرة من الياء، وهو كثير جداً، فلما كان الاكتفاء بالكسرة جائزاً مستحسناً في هذه الأسماء الآحاد، والآحاد أخف من الجموع، كان باب جوار جديراً أن يلزم الحذف لثقله. ألا ترى أنه جمع وهو مع ذلك الجمع الأكبر الذي تنتهي إليه الجموع! فلما اجتمع فيه ذلك وكانوا قد حذفوا الياء مما هو أخف منه ألزموه الحذف البتة حتى لم يجز غيره. وقد حذفت الياء من الفعل أيضاً في موضع الرفع حذفاً كالمطرد كقوله تعالى: {ما كنا نبع}، والليل إذا يسر وهو كثير. فهذا يدلك على اطراد حذف الياء. فإن قال قائل: الفعل أثقل من الاسم، فكيف ألزم باب جوار الحذف ولم يلزموه الفعل؟ قيل له: لم يلزم في الفعل، لأن الياء قد تحذف للجزم حذفاً مطرداً، فلو ألزموها الحذف في موضع الرفع أيضاً لالتبس الرفع بالجزم؛ وأجازوا الحذف في بعض المواقع استخفافاً. فإن قيل: هلا فصلت بين الرفع والجر أيضاً في جوار كما فصلت بين الرفع والجزم! قيل له: الضمة والكسرة وإن اختلفتا في الصورة فقد اتفقتا في أن كل واحدة منهما حركة، وأنهما كلتيهما مستثقلتان في الياء، فكذلك لم يفصلوا بينهما في باب جوار، واعتمدوا على ما يصحب الكلام من أوله إلى آخره، وليس كذلك في الرفع والجزم، لأنهما لم يتفقا في حال كما اتفقت الضمة والكسرة. فافهم . وأنشد بعده: وهو له ما رأت عين البصير وفوقه *** سماء الإله فوق سبع سمائيا أنشده لما تقدم في البيت قبله. قال أبو جعفر النحاس في شرح شواهد س ، نقلاً عن الأخفش، ومثله ابن جني في شرح تصريف المازني واللفظ له قال: قد خرج هذا الشاعر عما عليه الاستعمال من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جمع سماء على فعائل فشبهها بشمال وشمائل، والجمع المعروف فيها إنما هو سمي على فعول، ونظيره عناق وعنوق. ألا ترى أن سماء مؤنثة كما أن عناقاً كذلك؟ والثاني: أنه أقر الهمزة العارضة في الجمع مع أن اللام معتلة، وهذا غير معروف، ألا ترى أن ما تعرض الهمزة في جمعه ولامه واو وياء وهمزة فالهمزة العارضة فيه مغيرة مبدلة نحو خطيئة وخطايا، ومطية ومطايا، ولم يقولوا: خطائي ولا مطائي!. والثالث: أنه أجري الياء في سمائي مجرى الباء في ضوارب، ففتحها في موضع الجر، والمعروف عندهم أن تقول: هؤلاء جوار ومررت بجوار، فتحذف الياء وتدخل التنوين. وللنحويين في ذلك احتجاج لما يذهبون إليه من أن أصل مطايا مطائي، ألا ترى أن الشاعر لما اضطر جاء به على أصله فقال: سمائيا كما أنه لما اضطر إلى إظهار أصل ضن . قال: البسيط أني أجود لأقوام وإن ضننوا وكما قال الآخر: صددت فأطولت الصدود يريد أطلت . فهذه الأشياء الشاذة فيها حجج في أن يقولوا: إن أصل هذا كذا. وكذلك ما حكى عنهم من أنهم يقولون: غفر الله له خطائئه - بوزن خطاعهه - فيه دلالة على أن أصل رزايا رزائي بوزن رزاعع. ألا ترى أن رزيئة كخطيئة! فلابد لهم في جميع ما يدعونه من قياس يرجعون إليه، ومسموع يحملون ما غير عليه . انتهى. وهذا كله من الأصول لابن السيرافي، إلا أن ابن جني بسط ما أجمله لابن السراج. وهذا البيت من قصيدة طويلة لأمية بن أبي الصلت، مطلعها: ألا كل شيء هالك غير ربن *** والله ميراث الذي كان فانيا ولي: له من دون كل ولاية *** إذا شاء لم يمسوا جميعاً مواليا وإن يك شيء خالداً ومعمر *** تأمل تجد من فوقه الله باقيا له ما رأت عين البصير وفوقه *** سماء الإله فوق سبع سمائيا وهذه قصيدة عظيمة تشتمل على توحيد الله وقصص بعض الأنبياء كنوح، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان عليهم السلام . ويعجبني منها قوله: ألا لن يفوت المرء رحمة ربه *** ولو كان تحت الأرض سبعين واديا يعالى وتدركه من الله رحمة *** ويضحي ثناه في البرية زاكيا وقوله في آخرها: وأنت الذي من فضل سيب ونعمة *** بعثت إلى موسى رسولاً مناديا فقال: أعني يا ابن أمي فإنني *** كثير به يا رب صل لي جناحيا وقلت لهارون: اذهبا فتظاهر *** على المرء فرعون الذي كان طاغيا وقولا له: أأنت سويت هذه *** بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا وقولا له: أأنت رفعت هذه *** بلا عمد أرفق إذاً بك بانيا وقولا له: أأنت سويت وسطه *** منيراً إذا ما جنه الليل ساريا وقولا له: من أخرج الشمس بكرة *** فأصبح ما مست من الأرض ضاحيا وقولا له: من أنبت الحب في الثرى *** فأصبح منه البقل يهتز رابيا فأصبح منه حبة في رؤوسه *** ففي ذاك آيات لمن كان واعيا وقوله: ولي له من دون كل ولاية إلخ هو خبر مبتدأ محذوف، أي: ربنا ولي؛ وهو فعيل بمعنى فاعل، من وليه إذا قام به، وكل من ولي أمر أحد فهو وليه؛ والضمير في له راجع لقوله الذي كان فانيا . والولاية، قال أبو عمرو: هي بالكسر في العمل، وبالفتح في الدين. وقوله: إذا شاء إلخ يقول: إذا شاء أماتهم وفرقهم. والموالي: الورثة، جمع مولى، قال تعالى: {ولكل جعلنا موالي}، أي: ورثة. وقوله لما رأت عين البصير إلخ له: خبر مقدم وضميره لربنا، وما موصولة مبتدأ مؤخر؛ وتقديم الخبر للحصر، أي: الذي رأته الأعين ملك لربنا ليس لأحد شيء منه؛ وضمير فوقه عائد ل ما الموصولة. وسماء الإله أراد به العرش، مبتدأ وخبره الظرف قبله كان فوق سبع سمائيا حالاً من سماء الإله. كذا في إيضاح الشعر لأبي علي. قال ابن جني في الخصائص: وكان أبو علي ينشدنا: فوق ست سمائيا . وكذا رأيته أنا قد أثبته في الصحاح ، وكذلك رأيته أنا أيضاً في ديوان أمية ، فيكون المراد بسماء الإله: السماء السابعة. وأمية هو أمية بن أبي الصلت، واسمه: عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي. قال الأصمعي: ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة، وعنترة بعامة ذكر الحرب. وقد صدقه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض شعره. وفي صحيح مسلم عن الرشيد بن سويد قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم. قال: هيه! فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتاً، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت فقال: كاد ليسلم ، وفي رواية: ليسلم في شعره . وفي رواية: آمن شعره وكفر قلبه ؟. وفي الإصابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد قول أمية: الكامل رجل وثور تحت رجل يمينه *** والنسر للأخرى وليث مرصد فقال: صدق، وهذه صفة حملة العرش. وفي شرح ديوانه لمحمد بن حبيب: يقال: إن حملة العرش ثمانية: رجل، وثور، ونسر، وأسد، هذه أربعة وأربعة أخرى؛ فأما اليوم فهم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة أخرى فذلك قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}. كذلك بلغني، والله أعلم ويقال: إن الذي في صورة رجل هو الذي يشفع لبني آدم في أرزاقهم، وأما الذي في صورة نسر فهو الذي يشفع للطير في أرزاقهم. وبلغني أيضاً أن لكل ملك منهم أربعة وجوه: وجه رجل، ووجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر. وفي الأغاني بسنده لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية: البسيط الحمد لله ممسانا ومصبحن *** بالخير صبحنا ربي ومسانا رب الحنيفة لم تنفذ خزائنه *** مملوءة طبق الآفاق أشطانا ألا نبي لنا منا فيخبرن *** ما بعد غايتنا من رأس مجرانا بينا يرببنا آباؤنا هلكو *** وبينما نقتني الأولاد أبلانا وقد علمنا لو أن العلم ينفعن *** أن سوف تلحق أخرانا بأولانا وقد عجبت وما بالموت من عجب *** ما بال أحيائنا يبكون موتانا! إلى أن قال: يا رب لا تجعلني كافراً أبد *** واجعل سريرة قلبي الدهر إيمانا واخلط به بنيتي واخلط به بشري *** واللحم والدم ما عمرت إنسانا إني أعوذ بمن حج الحجيج له *** والرافعون لدين الله أركانا مسلمين إليه عند حجهم *** لم يبتغوا بثواب الله أثمانا فقال صلى الله عليه وسلم: آمن شعره وكفر قلبه . وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: وكان أمية يخبر أن نبياً يخرج، قد أظل زمانه، وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي؛ فلما بلغه خروج النبي صلى الله عليه وسلم كفر به حسداً . ولما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره قال: آمن لسانه وكفر قلبه . وأتى بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، وكان يأخذها من الكتب. منها قوله: الوافر بآية قام ينطق كل شيء *** وخان أمانة الديك الغراب وزعم أن الديك كان نديماً للغراب، فرهنه على الخمر وغدر به وتركه عند الخمار، فجعله الخمار حارساً. ومنها قوله: قمر وساهور يسل ويغمد وزعم أهل الكتاب أن الساهور غلاف القمر يدخل فيه إذا انكسف. وقوله في الشمس: الكامل ليست بطالعة لهم في رسله *** إلا معذبة وإلا تجلد وكان يسمي السماوات صاقورة وحاقورة وبرقع . وعلماؤنا لا يرون شعره حجة على الكتاب. ولما حضرته الوفاة قال: الخفيف كل عيش وإن تطاول يوم *** صائر مرة إلى أن يزولا ليتنب كنت قبل ما قد بدا لي *** في رؤوس الجبال أرعى الوعولا قال شارح ديوانه في شرح بيت الشمس: قال أبو عمرو: قال أبو بكر الهذلي: قلت لعكرمة مولى ابن العباس رضي الله عنهما: أرأيت ما بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأمية بن أبي الصلت: آمن شعره وكفر قلبه ؟ فقال: هو حق، وما أنكرتم من ذلك؟ قال: قلنا أنكرنا قوله: والشمس تصبح كل آخر ليلة *** حمراء يصبح لونها يتورد ليست بطالعة لهم في رسله ***..... البيت فما شأن الشمس تجلد؟ قال: والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقال لها: اطلعي! فتقول: لا أطلع على قوم يعبدوني من دون الله. فيأتيها ملكان حتى تستقل لضياء العباد، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع، فتطلع على قرنيه فيحرقه الله تحتها. وما رغبت قط إلا خرت لله ساجدة، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن سجودها فتغرب على قرنيه فيحرقه الله تحتها. فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان . وفي الأغاني عن الزبير بن بكار قال: حدثني عمي قال: كان أمية في الجاهلية نظر الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبداً، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية، وحرم الخمر، وتجنب الأوثان، وصام، والتمس الدين طمعاً في النبوة؛ لأنه كان قد قرأ في الكتب أن نبياً يبعث في الحجاز من العرب وكان يرجو أن يكون هو، فما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حسده. وكان يحرض قريشاً بعد وقعة بدر ويرثي من قتل فيها، فمن ذلك قصيدته الحائية التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن روايتها التي يقول فيه: مجزوء الكامل ماذا ببدر والعقن *** قل من مرازبة جحاجح لأن رؤوس من قتل بها عتبة وشيبة: ابنا ربيعة بن عبد شمس، وهما ابنا خاله لأن أمه رقية بنت عبد شمس. وفي الإصابة: ذكر صاحب المرآة في ترجمته عن ابن هشام قال: كان أمية آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد الحجاز ليأخذ ماله من الطائف ويغادر، فلما نزل بدراً قيل له: إلى أين يا أبا عثمان؟ فقال: أريد أن أتبع محمداُ فقيل له: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. قال: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع أنف ناقته وشق ثوبه وبكى، وذهب إلى الطائف فمات بها. ذكر ذلك في حوادث السنة الثامنة. والمعروف أنه مات في التاسعة. ولم يختلف أصحاب الأخبار أنه مات كافراً، وصح أنه عاش حتى رثى أهل بدر، وقيل إن الذي نزل فيه قوله تعالى: {الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها}. وقيل: إنه مات سنة تسع من الهجرة في الطائف كافراً قبل أن يسلم الثقفيون. ورأيت في ديوانه قصيدة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم أوله: المتقارب لك الحمد والمن رب العب *** د أنت المليك وأنت الحكم إلى أن قال: ودن دين ربك حتى التقى *** واجتنبن الهوى والضجم محمد أرسله بالهدى *** فعاش غنياً ولم يهتضم عطاء من الله أعطيته *** وخص به الله أهل الحرم وقد علموا أنه خيرهم *** وفي بيتهم ذي الندى والكرم يعيبون ما قال لما دع *** وقد فرج الله إحدى البهم به وهو يدعو بصدق الحدي *** ث إلى الله من قبل زيغ القدم أطيعوا الرسول عباد الإله *** تنجون من شر يوم ألم تنجون من ظلمات العذاب *** ومن حر نار على من ظلم دعانا النبي به خاتم *** فمن لم يجبه أسر الندم نبي هدى صادق طيب *** رحيم رؤوف يوصل الرحم به ختم الله من قبله *** ومن بعده من نبي ختم يموت كما مات من قد مضى *** يرد إلى الله باري النسم مع الأنبيا في جنان الخلود *** هم أهلها غير حل القسم وقدس فينا بحب الصلاة *** جميعاً وعلم خط القلم كتاباً من الله نقرا به *** فمن يعتديه فقد ما أثم ما زائدة، وأثم فعل ماض. تتمة تتبعت من اسمه أمية فوجدتهم خمسة: أحدهم هذا، والثاني: أمية بن كعب المحاربي، والثالث: أمية بن خلف الخزاعي. والرابع: أمية بن أبي عائذ الهذلي. والخامس: أمية بن الأسكر الكناني. ولم يذكر واحداً منهم الآدمي في كتابه المؤتلف والمختلف مع أن هذا من شرط كتابه. ونترجم إن شاء الله من هؤلاء من يأتي له شعر في هذه الشواهد، بعون الله تعالى وحسن توفيقه. وأنشد بعده: يفوقان مرداس في مجمع تقدم الكلام عليه مستوفى في الشاهد السابع عشر. وأنشد بعده: وهو
|